<P align=right> </P>
<P align=right>أيها الاخوة المؤمنون رمضان شهر القرآن، ولذا تعظم في هذه الأيام الصلة بكتاب الله - جلَّ علا- تلاوةً واستماعاً وتدبُّراً وانتفاعاً، ونجد أن من المناسب أن نتحدث في هذا الموضوع العظيم، الذي نحتاج فيه إلى تأملٍ وتدبُّر، وإلى محاسبةٍ ومراجعة . لأن هذا القرآن العظيم دستور الأمة ، الذي جعله الله - عز وجل - ضياءً لها يبدد لها كل الظلمات ، وجعله منهجاً لها يعصمها عن الانحرافات ، وجعله حياةً لقلوبها ، ونوراً لعقلوها ، وتقويماً لسلوكها ، وجعل فيه خير الدنيا ، ويكون به نعيم الآخرة بإذن الله –عزوجل -... يقول الحق - جلَّ وعلا - في هذه النعمة العظيمة والمنة الكبيرة { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا }. إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم على إطلاق هذا اللفظ ، فهو يهدي للتي هي أقوم في شأن الفرد ، وفي شأن المجتمع والأمة، يهدي للتي هي أقوم في شأن الاقتصاد ، وفي شأن الحكم ، وفي شأن الحياة الاجتماعية ، وفي شأن الحياة التعليمية ، وفي كل ضربٍ من ضروب الحياة، يهدي للتي هي أقوم فيما يتصل بالقلوب ، وفيما يتصل بالعقول، وفيما يتصل بالألفاظ والكلمات، وفيما يتصل بالحركات والسَكَنَات، يهدي للتي هي أقوم في كل شيءٍ يتصل بالإنسان في هذه الحياة، يهدي للتي هي أقوم في التصورات التي يدرك بها المؤمنون قيمة الحياة وما وراء الحياة فهو كتاب هدايةٍ كاملةٍ شاملةٍ تامة تتناول أعماق القلوب ، وخفايا النفوس ، وواقع الحياة ومستقبل الأيام وما بعد هذه الحياة الدنيا كلها . ويقول الحق - جل وعلا - في سياق المنة على هذه الأمة المحمدية : { وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين } هو شفاءٌ للأمراض والأسقام الحسيَّة المادية ، وهو شفاءٌ لأمراض القلوب وعلل النفوس وأخطاء الأهواء . فهكذا جعله الله سبحانه وتعالى لمن آمن به واتصل به وتدبَّر معانيه وأخذ بأحكامه، وهو رحمة الله - سبحانه وتعالى - لهذه الأمة ، بل لهذه البشرية كلها لأنه - سبحانه وتعالى - هو العليم بخلقه { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } فهو العليم بخلقه ، أنزل لهم ما يصلح حياتهم من شرعه ، ولذلك كانت الرحمة العظمى بهذا القرآن العظيم كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما من نبيٍ إلاَّ وأوتي ما على مثله آمن قومه وكان الذي أوتيته وحياً يُتلى إلى يوم القيامة ) . معجزةٌ خالدةٌ على مدى الأزمان ، معجزةٌ محفوظةٌ بحفظ ربنا الرحمن : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ويقول الحق - جلَّ وعلا - : { يا أيها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا } . القرآن هو النور والضياء الذي يكشف ظلمات الشبهات ، والذي يبدد بهرج الشهوات ، هو النور الذي تعرف به مقياس هذه الحياة ، وتعرف به القيم الربانية التي جعلها الله - عز وجل - في هذا الكتاب العظيم { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } . به تزن الناس، وبه تعرف تقويم الأشخاص ، والعمل به ينير لك كل أمرٍ يخفى عليك بعضه أو كله ، به تعرف أمر الله - جل وعلا - وحكمته في كل ما تحتاج إليه وقال الله -سبحانه وتعالى -: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء } . هذا القرآن هو روح الأجساد .. فما قيمة الجسد إذا سُلبت منه الروح ، إن الجسد إذا فارقته الروح أنتن وأصبح جيفةً تعافها النفوس، وتوقف فلا حركة ولا انطلاق ولا عمل ولا إنتاج والقرآن حقيقةً هو حياة القلوب، إذا سُلب القرآن من القلب فإن الإنسان يغدوا ميتاً وإن كان يدبُّ دبيب الأحياء ، ويفتقد الحركة البصيرة .. لأنه حينئذٍ يخبط خبط عشواء ويتردى في الظلمات ، ويوغل في الشهوات والمحرمات ، ويغرق في الانحرافات ،ويغوص في الملذات ، فيُغشي ذلك على قلبه، ويعمي بصيرته ، ويطفئ نور الإيمان في نفسه ، فيغدوا حينئذٍ كما أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( قلبه كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلاَّ ما أُشرب من هواه ) . إذاً هذا هو القرآن العظيم، في بعض ما وصف الله - جل وعلا - لنا فهو الهداية ، وهو كما أخبر - عز وجل – الشفاء ، وهو الرحمة ،وهو النور ، وهو الحياة .. فكيف يمكن لنا أن نحيا في هذه الدنيا بلا حياةٍ وبلا نورٍ وبلا رحمةٍ وبلا هدايةٍ وبلا شفاء ؟! إننا حينئذٍ نحكم على أنفسنا وعلى حياتنا بالتعاسة والشقاء ونحكم على واقعنا بالظلم والظَلْماء ، وهذا هو سر ما يتخبَّط فيه المسلمون بقدر ابتعادهم عن كتاب الله - جلَّ وعلا - . لننظر أيها الاخوة الكرام - ونحن في شهر القرآن - إلى المصطفى – صلى الله عليه وسلم - كيف تلقَّى هذا القرآن ! وكيف كانت صلته به ! وكيف نقل ذلك إلى أصحابه الكرام - رضوان الله عليهم - أجمعين . في صحيح البخاري ما يخبرنا به النبي - عليه الصلاة والسلام -عن أول نزول الوحي، عن اللحظة التي اتصلت فيها الأرض بالسماء ،عن أول شعاعٍ لتبديد الظَلْماء . يخبرنا النبي - عليه الصلاة والسلام - أن جبريل جاءه وهو في غار حراء ، حيث كان يخلوا بنفسه يتأمل في ملكوت الله - جلَّ وعلا - حيث كان يخلوا بنفسه ، يتحنَّث الليالي ذوات العدد ، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - فجاءه جبريل - عليه الصلاة والسلام – فقال له : " اقرأ " فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ما أنا بقارئ - أي لا أعرف القراءة –قال: فأخذني فضمني فَغطَني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني أي أطلقني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني ثانيةً حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال لي اقرأ قلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم * الذي علَّم بالقلم * علم الإنسان مالم يعلم } . فكان إشراق النور القرآني الرباني ،من كلام الله - سبحانه وتعالى - وهذا النزول الأول يدل على عظمة ما في هذا القرآن من رسالة ، وعلى عظمة ما فيه من دستور ، وعلى عظمة ما فيه من آدابٍ وأحكامٍ وتعليماتٍ وإرشادات ، ولذلك نزل على هذه الصورة من الشدة والقوة حتى يتهيأ قلب المصطفى – صلى الله عليه وسلم - لحمل هذا الكلام الرباني العظيم .. لحمل هذه الرسالة الخالدة التي يخالف بها الخلق أجمعين ، والتي يواجه بها جميعاً الكفار والمعتدين ، هكذا كان كما قال الله -عز وجل - :{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة } فليس أمر القرآن هيناً سهلاً حتى نتهاون فيه . هكذا بذرت البذرة الأولى في رسول الله – صلى الله عليه وسلم - مَن قَدَح في قلبه التعلق بالقرآن فإذا به من شدة لهفته ، ومن عظيم حرصه عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه الوحي ، ونزل عليه جبريل بالقرآن يسابق الوحي بتَرداد الآيات رغبةً في حفظه وضبطه ، وتعلقاً به من أعماق قلبه ، حتى نزل قوله -جل وعلا -: { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يكتفي بذلك التلَقِّي ، وإنما كان ينشر هذا القرآن فيتلوه في الصلوات ، ويعلمه للصحابة ، كما قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه – " حفظت من فم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - سبعين سورةً من القرآن " . النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - قائد الأمة والذي كانت عنده المهمات العظيمة . كان يجعل من وقته جزءاً يعلم فيه أصحابه كتاب الله - جل وعلا - ثم إن تعلقه العظيم بهذا القرآن لم يقتصر فيه على هذا ، وإنما كان يحب أن يستمع القرآن، لقد امتلاء به قلبه ونطق به لسانه فأراد أن يشنِّف به آذانه - عليه الصلاة والسلام - . روى أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لقيه وقال له : ( لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ) كان يأتي وينصت إلى قراءة أبي موسى ، لأنه كان حسن الصوت ، جيد التلاوة . وفي بعض الروايات قال أبو موسى : " أما إني لو علمت أنك تسمعني لحبَّرته لك تحبيرا " - أي لزدت </P>
<P align=right></P>